وخالفهم في ذلك طائفة من العلماء فقالوا: ليس هذا القول بالقول السديد، والصحيح أن باب التوبة مفتوح، وأن على هذا الرجل وأمثاله إذا تعذر عليه طريق إيصال الحق إلى أهله أن يتصدق بذلك الحق عن صاحبه، ثم إن عاد صاحبه فهو بالخيار: فإما أن يقره على ما تصدق به وله أجره، وإما أن يأخذ العوض، فيأخذ حقه ويكون الأجر للمتصدق الذي كان عليه الحق؛ إذ لا يجتمع العوض والمعوض.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وهذا مذهب جماعة من الصحابة، كما هو مروي عن ابن مسعود و معاوية و حجاج بن الشاعر) وذكر [أن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه روي عنه أنه اشترى من رجل جارية، فدخل ليزن له الثمن فذهب رب الجارية ولم يعد، فانتظره، فلما يئس من لقائه وعودته تصدق بالثمن وقال: اللهم هذا عن رب الجارية]، فإن رضي فالأجر له وإن أبى فالأجر لي، وله من حسناتي بقدره.
وذكر كذلك [أن رجلاً غل من الغنيمة، ثم تاب فجاء بما غله إلى أمير الجيش في أيام معاوية رضي الله عنه، فأبى أن يقبله وقال: كيف لي بإيصاله إلى الجيش وقد تفرقوا؟! فرده فذهب إلى حجاج بن الشاعر فقال له: يا هذا! إن الله يعلم الجيش وأسماءهم وأنسابهم، فادفع خمسه إلى صاحب الخمس وتصدق بالباقي عنهم؛ فإن الله يوصل ذلك إليهم. ففعل، فلما أخبر معاوية بفتوى حجاج بن الشاعر قال: لأن أكون أفتيت بذلك أحب إلي من نصف ملكي، فأقره معاوية] ، فهؤلاء ثلاثة من السلف عملوا بذلك.
ويقيس ابن القيم ذلك على اللقطة، فمن التقطها ثم عرفها فلم يجد ربها فإنه إما أن يتملكها، وإما أن يتصدق بثمنها عنه، فإن ظهر المالك خير بين الأجر وبين الضمان.
وهذا هو القول الراجح -إن شاء الله تعالى- في هذه المسألة، وأما إنكار بعض الفقهاء على من يفتي به بقولهم: إن هذا من تصرفات الفضولي -إذ الفضولي هو الذي يتصرف في مال غيره بغير إذنه أو بغير وكالته-؛ فقد رد عليه ابن القيم بأن الإذن العرفي كالإذن اللفظي، ومن المعلوم أن صاحبه أشد رضاً بوصول نفع ماله الأخروي إليه، وأكره لتعطيله أو إبقائه مقطوعاً عن الانتفاع به دنيا وأخرى، فكيف يقال: إن مصلحة تعطيل هذا المال عن انتفاع الميت والمساكين به أرجح من مصلحة إنفاقه شرعاً، وهل ذلك إلا محض المفسدة.
وقد أورد في ذلك قصة طريفة لـابن تيمية رحمه الله تدل على أن القائلين بهذا القول لا حجة لهم، ولا حكمة ولا مصلحة في أن يعمل الناس بفتواهم، حيث قال رحمه الله تعالى: (سئل شيخنا أبو العباس قدس الله روحه، سأله شيخ فقال: هربت من أستاذي وأنا صغير إلى الآن، ولم أطلع له على خبر، وأنا مملوك، وقد خفت من الله عز وجل وأريد براءة ذمتي من حق أستاذي من رقبتي) يعني: أنه كان مملوكاً لرجل فهرب منه ثم لم يعثر له على خبر، ويريد أن يتحلل منه، قال: (وقد سئلت جماعة من المفتين فقالوا لي: اذهب فاقعد في المستودع. فضحك شيخنا) رحمه الله، أي: ضحك من فتوى بعض الذين يفتون ولا يتأملون في الحكم والمصالح التي جاء الشرع لتكميلها، قال: (وقال: تصدق بقيمتك أعلى ما كانت عن سيدك) يعني: في وقت من الأوقات كانت الرقاب فيه أغلى ما كانت، وكنت أنت في شبابك أغلى ما يمكن، فتصدق بقيمتك عن سيدك (ولا حاجة لك بالمستودع تقعد فيه عبثاً لغير مصلحة وإضراراً بك وتعطيلاً عن مصالحك، ولا مصلحة لأستاذك في هذا ولا لك ولا للمسلمين) رضي الله تعالى عن شيخ الإسلام وأرضاه.
فبهذا نعلم أن الحكم الشرعي في هذه الحالات هو أن تتصدق بالمال عن صاحبه.